الإفتتاحية
أيام قرطاج السينمائية الدورة 35 تونس من 14 إلى 21 ديسمبر 2024
اختارت أيام قرطاج السينمائية، المهرجان السينمائي الأقدم في إفريقيا والعالم العربي والمهرجان الأول الذي منح في دورته التأسيسية سنة 1966 جائزته الكبرى، التانيت الذهبي، لأول فيلم روائي طويل من إفريقيا جنوب الصحراء “… La Noire de” للسنغالي عصمان صمبان، على جميع المستويات الدفاع – دون انقطاع وعلى امتداد مساره إلى اليوم – عن السينماءات العربية والإفريقية الملتزمة بالقضايا الاجتماعية والسياسية وحتى “الشاعرية” للبلدان المعنية عاكسا وجهات نظر ورؤى صناع الأفلام بعيدا عن السينما الترفيهية والتجارية السائدة
على مدى أكثر من نصف قرن من نشأتها، كانت أيام قرطاج السينمائية ولا تزال منصة لاكتشاف صناع الأفلام العرب والأفارقة ومحطة مفصلية لهذه الأصوات السينمائية في تجاربها الأولى قبل أن تحقق الإشعاع الدولي، من بين هؤلاء المخرجين الذين مروا في بداياتهم من المهرجان المخرج المالي سليمان سيسي المتوج عن فيلمه القصير الأول في قرطاج سنة 1992 قبل أن ينال تتويج مهرجان كان السينمائي سنة 1987 كذلك السينمائي المصري يوسف شاهين الحاصل على التانيت سنة 1970 ليحصد بعد ثماني سنوات من هذا التاريخ الدب الفضي في برلين وأيضا الفلسطيني هاني أبو أسعد في فيلمه “القدس في يوم آخر” (عرس رنا) قبل أن يفوز بغولدن غلوب لأفضل فيلما أجنبيا سنة 2006 ثم التانيت الذهبي سنة 2014 كما الموريتاني عبد الرحمن سيساكو الذي بعد تصوير فيلمه القصير “صبرية” في تونس وعرضه في أيام قرطاج السينمائية توج بـ 7 جوائز سيزار وحقق إشادة دولية عن فيلم “تمبكتو” سنة 2015 وذلك قبل أن يعود إلى أيام قرطاج السينمائية رئيس للجنة التحكيم سنة 2016.
وبعيدا عن الترف والبهرج، ظلت أيام قرطاج السينمائية ملتزمة بالقضايا العادلة والإنسانية بما فيها القضايا البيئية المتفاقمة في راهننا.
إن أحد أهم مكاسب أيام قرطاج السينمائية وأحد أسباب فخرها، هو نجاحها على مدى أكثر من نصف قرن في تكوين جمهور مطلع، متطلب وشغوف بالسينما، قادر على اجتياز أبواب قاعات العرض لا لمجرد مشاهدة فيلم تجاري وإنمّا لاكتشاف فيلم جديد من افريقيا والعالم العربي لصانع أفلام غالبا ما يكون مغمورا ولا يتمتع بإمكانات “هوليود” الترويجية والدعائية.
وبفضل هذه القاعدة الجماهيرية الواسعة والاستثنائية لمحبي أفلام الجنوب أصبح المهرجان من المواعيد السينمائية النادرة القادرة على منح الضيف – حتى وإن سبق له مشاهدة الفيلم – متعة إعادة اكتشاف مباشرة ولأول مرة فيلم من الجنوب أثناء استقباله من جمهور الجنوب المتحمس والمولع بالفن السابع.
أيام قرطاج السينمائية هي كذلك فرصة لزوارها من محترفي ومهني صناعة الأفلام لاكتشاف أصوات الجنوب السينمائية الواعدة وذلك بفضل ورش الدعم اللوجستي والمالي لصانعي الأفلام الشباب وأعمالهم (في طور التطوير أو في مرحلة “ما بعد الإنتاج”) المبرمجة في قسم “قرطاج للمحترفين”.
وفي هذا السياق، نأمل أن تكون أيام قرطاج السينمائية 2024 دورة لتعزيز الإنجازات والمكاسب المحققة ومنصة دائمة لدعم أحلام وآمال صانعي أفلام المستقبل.
فريد بوغدير
الرئيس الشرفي لأيام قرطاج السينمائية
بينما تتّخذ السينما معايير تخرج بها عن تصوّرنا التقليديّ لهذه الصّناعة وتفرض نفسها أمام جمهور لا حصر له من المستهلكين، وأمام استحواذ الإنتاجات القصيرة والسريعة على عقول جمهور الإنترنت، لم يعد السؤال الأهمّ هو مدى قدرة السينما على استيعاب كلّ هذه التحوّلات الجذرية التي يعيشها عالم الصورة، ولا في جدوى المهرجانات السينمائيّة التي تطالب بالتنقّل من أجلها جمهورا صارت الصورة جزءا من بيته وكل تفاصيل حياته.
إنّ ما يجدر أن يحظى بالسؤال، وأن نصبّ للتفكير فيه كلّ جهودنا، هو المسار الإبداعيّ في حدّ ذاته، ومدى تغلغله في سردية أصيلة؛ أكانت غارقة في الشخصيّة أو نابتة من عمق جماعيّ، فريدةُ الكتابة أو معياريّةُ الصّنع، فالأهمّ، هو أنّ هذا الجمهور الذي يجد في كلّ مرّة ظالّته في القاعات المظلمة، سيتمتّع بكلّ الأحقيّة في تملّك ما قُدّم إليه، ثمّ فهمه أو استبطانه أو لفظه دون شعور بالغربة والوحشة، بل بحقيقيّة ومشروعيّة النّقاش.
تفتح أيام قرطاج السينمائية منذ نشأتها باب النّقاش حول الفعل السينمائيّ، وخصوصيّات العملية الإبداعية وتنوّعها، ضمن برمجة تتفرّد بالانتصار للسرديّة العربية الإفريقيّة، وتتوجّه إلى جمهور سرعان ما يجد نفسه شريكا في التجربة، ليس فقط من خلال تبنّيه لقصص تشبهه، إنّما في البحث عن إمكانات المحافظة على إرث سينمائيّ استثنائيّ، وبثّ الحياة فيه من خلال التفكير فيه ومداولته والترويج له.
جمهور ذكيّ وشغوف ومهتمّ، يعطي في كلّ مرّة معنى لعراقة أيام قرطاج السينمائيّة ويؤكّد مشروعية استمرارها.
الجمهور، هو الضامن الأكبر لمكانة السينما في عصر يفيض بالصور، وفي راهن نتساءل فيه كلّ يوم عن كيف نقدّم برمجة تُبنى على فعل إبداعي أصيل في عالم تُبتلع فيه القصص بين التدفق اللامحدود للمنصات الرقمية وبين انفصال المتفرّجين عن الطقوس الجماعية التي شكلت يومًا أساس الفعل السينمائي
على مرّ العقود، أصبحت أيام قرطاج السينمائية شاهدة حقيقية على التحولات الكبرى التي عرفها عالم السينما في منطقتنا، بل وأحد المحركات الأساسية لهذا التطور. لقد كانت دائمًا نافذة تسائل الإبداع وتنوع الأصوات، التي تعكس قصصنا وتنبض بواقعنا، لتجد طريقها نحو آفاق أبعد وأكثر اتساعًا. هذا العام، نواصل إيلاء الأهمية الكبرى للسينما العربية والإفريقية التي تحمل قضاياها بجرأة ومسؤولية. كما نؤكد اعتزازنا بالسينما التونسية التي تثبت عامًا بعد عام غناها وحيويتها من خلال إنتاجات مميزة ومتفردة، والتي تشكل جوهر وجود هذه الأيام.
خلال هذه الدورة، تتوسع أيام قرطاج السينمائية لتحتضن تجارب جديدة ومبتكرة حيث تفتح تقنية الواقع الافتراضي أبوابًا لتجارب غامرة وغير مسبوقة، بينما تبرز السينما التحريكية قصصًا ملتزمة بقضايا إنسانية، وتعيدنا الأفلام البيئية إلى أهمية التصدي للأزمات البيئية المتفاقمة. هذه المغامرات في أشكال سردية بديلة تعكس إرادة عميقة في ربط جماهير متنوعة ومتزايدة بفن دائم الحركة والتطور.
في عالم مثقل بالأزمات الصارخة – من الصراعات إلى الكوارث المناخية، مرورًا بالظلم الاجتماعي والهجرات القسرية والاستيطان والعدوان – لا يمكن للسينما إلا أن تكون فعلًا لحفظ الذاكرة وأداة للمقاومة. تمنح هذه الدورة من أيام قرطاج السينمائية مكانة محورية للأصوات التي تتحدى القهر والظلم: فلسطين، لبنان، السودان، اليمن،
رواندا، وغيرها. هذه القصص، المشبعة بالألم، تذكرنا بأن الكاميرا يمكن أن تكون سلاحًا ونافذةً تطل على عوالم لم تعد خفية، لكنّها تتّخذ أبعادا لا متناهية عبر أداة قوية لا تنفكّ عن تشكيل الوعي الجماعي.
من خلال هذه الدورة، نحتفل ليس فقط بروح السينما التونسية وإبداعاتها، بل نفتح أبوابنا أيضًا للأعمال العالمية التي تستكشف قيمًا إنسانية نبيلة كالتضامن والالتزام بقضايا جوهرية. لنحوّل هذه الأيام إلى مزار للسينما، وإلى لحظة من الشغف المشترك بين مختلف الأفكار والعقول.
لا يسعنا سوى الفخر بمشاركتكم أيامنا!
لمياء بالقايد قيقة
المديرة الفنية