محمود سليمان
السيدة بطلة الفيلم هي أول نقاط جاذبيته، بما تمثله من صورة مختلفة عن الشكل النمطي للمرأة المصرية الفقيرة، البسيطة في تفكيرها ولغتها وتقييمها للأمور. على العكس نجد هذه السيدة راجحة العقل، منضبطة الحديث، تجيد تقييم موقفها ورصد الأسباب التي أدت إليه، تتحدث عن مشاعرها بطلاقة وبقدر من العقلانية، وتجعلك في كل لحظة تؤمن بأنها كان من الممكن أن تعيش حياة مختلفة كلياً لو لم تأت للعالم يدفعها دفعاً نحو مصيرها المؤلم
إجبارها على الزواج وهي طفلة من رجل عجوز يعذبها عاماً ثم يتركها، ثم زواج آخر من سكير ينجب أربعة أطفال كي يعملوا وينفقوا عليه، ودائرة لا تتوقف من العمل الشاق من أجل جنيهات تُسير بهم الحياة.
أما أكثر حكايات الفيلم ثراءً واختلافاً فهي قصة الابن الثاني نور، والذي تظهر عليه دلائل الميول المثلية بما يتسبب في خلاف ضخم بينه وبين شقيقه الأكبر، بينما تحاول الأم بشتى الطرق أن تنفي التهمة التي تشين ابنها في عالمهم، والتي تمثل بالنسبة لها شكلاً آخر لفشلها في مهمة عمرها.
حكاية كهذه هي وليدة الدأب وحده، يكافئ بها القدر المخرج لتقديم حالة يكاد يستحيل على أي مخرج مصري آخر أن يتعرض لها بمثل هذا الانفتاح، فسواء أراد مخرج أن يصور شخصية نور في طفولته أو مراهقته أو شبابه، فلن يمكنه أن يقترب ولو قليلاً مما عرضه محمود سليمان عنه، فقط لأنه امتلك الإصرار الكافي لإنماء صداقة سنوات مع شخصياته، حتى صار من ذكريات طفولة أحدهم الوجبات التي كان يأكلها في استراحة التصوير عندما كان المخرج يصور مع والدته قديماً.
الدأب التسجيلي والعلاقة الصادقة بالشخصيات والبناء السردي والبصري المتصاعد للفيلم ليست كل أسباب احترام صانعه، بل أن على رأس هذه الأسباب يأتي المشهد الختامي الذي يعرض محمود سليمان فيه مكالمة يجريها معه الابن الأكبر خليل، مكالمة نفهم منها أن خليل قد تحدث من رقم غريب كي يصل للمخرج، ليشتكي له وضعه السيء وعدم عثوره على عمل، فلا يملك سليمان أكثر من إبداء التعاطف ووعد خليل بأن يتصل لمعرفة أخباره ووالدته.
هذا هو الاعتراف الأكثر شجاعة من صانع الفيلم، أنه رغم كل شيء عاجز عن تقديم عون حقيقي لمن يعلم يقينًا بمدى حاجتهم. قام برصد حياتهم ونقلها بصدق في فيلم، لكنه سيكمل حياته ويبدأ العمل على مشروع جديد، بينما يكملون هم حياتهم العسيرة التي تصير في كل يوم أتعس من سابقه
أحمد شوقي
(مقتطفات)
Filfan.com