أنجز يوسف شاهين خلال مسيرته الطويلة وبين الحين والآخر، أفلاماً أرضت السوق و "الجمهور" العريض، لكنه حقق في مساره السينمائي الذي قارب الستين عاماً، أفلاماً أخرى ربما تكون غالبية أعماله، أرضته كفنان وأرضت النقاد والمثقفين والمحبين الحقيقيين للسينما، وإن كانت رجمت بعد عروضها الأولى. فمن "بابا أمين" الى "هي فوضى؟" تسجل فيلموغرافيا الرجل الذي استحق دائما لقب "عميد السينما العربية" نحو أربعين فيلما (بين روائي طويل ووثائقي قصير)، سجلت في حد ذاتها، ومرحلة بعد مرحلة، علامات انعطافية في السينما المصرية بخاصة، ولكن، بالواسطة، في بعض السينمات العربية الأخرى. وهنا، نفكر، بالطبع، بأفلام النقد الاجتماعي وأفلام الغضب السياسي، ولا سيما أفلام السيرة الذاتية، التي كان شاهين، وليس فقط منذ "اسكندرية ليه؟" مفتتح تيارها والفنان الذي شق طريقها أمام عدد من متابعيه في تونس أو لبنان، في سورية أو المغرب.
ولم تكن ريادة شاهين في هذا الميدان مكللة بالغار، بل كلفته كثيرا، لكن "جو" الذي كان منذ يفاعته قرر ألا تكون له مهنة في حياته غير السينما، لم يبال، بل سار في طريقه متمردا مشاكسا، محللا غاضبا، لا توقفه رقابة ولا يحده اطار. ولولا هذا لما عرفت السينما المصرية روائع تصنف دائما في أفضل مئة فيلم في تاريخها، من "الأرض" الى "العصفور" ومن "باب الحديد" و "الاختيار" و "فجر يوم جديد" الى "بياع الخواتم" (في لبنان) و "المهاجر"، وخصوصا "اسكندرية/ نيويورك".
واذا كان شاهين اشتهر برباعية سيرته الذاتية (أفلام "الاسكندرية" الثلاثة و "حدوتة مصرية") بوصفها سلسلة أفلام رسم فيها، من دون سرد تاريخي خطي، صورا من حكاية حياته وحكاية السينما في تلك الحياة، فلا بد من القول إن سينما شاهين، ومنذ "بابا أمين"، تكاد تكون كلها سيرة متواصلة لهذا الفنان الذي، حتى حين استقى مواضيع أفلامه من أعمال كتاب آخرين، عرف دائماً كيف يكيفها مع تطلعاته وما يريد أن يقول.
ولدى ذكر اخراج يوسف شاهين لـ "بياع الخواتم" عن أوبريت الأخوين رحباني الشهيرة في بيروت، لا بد من الاشارة الى ذلك البعد العربي العام، الذي جعل من صاحب "الأرض" واحداً من أكثر المخرجين المصريين انفتاحا على الهموم العربية كما تجلت خارج مصر، ما أوصله دائما الى الشأن السياسي، في شكل مباشر أو أقل مباشرة في أفلام دنت من القضية الفلسطينية ("الأرض") أو القضية الجزائرية ("جميلة الجزائرية") أو الحرب الأهلية اللبنانية ("عودة الابن الضال") أو حتى العولمة (اسكتش في الفيلم الجماعي "11/9"، ثم "الآخر"...) أو دور أميركا - في رأيه - في مشاكل العالم العربي والعالم في شكل خاص ("الآخر"... و "اسكندرية - نيويورك").
لا يمكن القول، بالطبع، إن هذه الأفلام كلها كانت تحفا، لكنها وغيرها من أعمال شاهين، كانت تعبر دائماً عن سينما حاضرة في العصر، منفتحة على العالم، داعية الى التمرد والتسامح في آن، سواء كانت تاريخية مؤدلجة (كـ "الناصر صلاح الدين") أو سياسية دعائية (كـ "الناس والنيل") أو أعمالا أصلية (كغالبية أفلامه الكبرى)، فسينما شاهين، التي لن تموت أبدا بموته الذي سيحرمنا من جديده الذي كان دائما بالمرصاد، كانت سينما متنوعة، ذكية، معاصرة، وهذا ما كرس صاحبها، واحدا من كبار سينمائيي العالم، بشهادة مهرجان "كان" وأهل المهرجان الذين خصوا شاهين، عام 1997، بأرفع جائزة أعطيت في تاريخ المهرجان: جائزة الخمسينية (سعفة ذهبية خاصة) لمجموع أفلام شاهين طوال مسيرته.
من المؤكد أن شاهين لم يبال كثيرا بموته الخاص فهو، كمبدع، شاعر... ويعرف تماما قولة جان كوكتو من أن الشعراء لا يموتون طالما ان أغنياتهم تبقى منتشرة في الأزقة. وشاهين حقق طوال ستين سنة، تقريبا، أفلاما من المؤكد أن معظمها يبقى حيا... بل ستبقى حية أيضا، أجزاء كثيرة ومواقف حتى في أفلامه الأقل جودة. فالحال، إذا كان اسم يوسف شاهين قد تصدر الصحف ووسائل الإعلام في هذه الأيام في أخبار تتابع لحظة بلحظة وضعه الصحي وغيبوبته ونقله الى فرنسا واحتمالات النهاية، فما هذا إلا لأنه - بالتحديد - حقق هذه الأفلام وصور تلك المشاهد.
ولعلنا، في تأملنا لهذا الواقع الأخير، نعلن بهدوء انتصارا ما ليوسف شاهين. وإذ نقول يوسف شاهين هنا، نعني في الوقت نفسه انتصار السينما، وأكثر من هذا: انتصار المخرج. ذلك أن الكلمات الثلاث: شاهين، سينما، ومخرج، ليس من السهل تفريقها عن بعضها بعضا. وهذا منذ فيلم شاهين الأول "بابا أمين" الذي بتحقيقه عام 1949، أعلن شاهين ولادة جديدة لنجم سينمائي جديد هو المخرج. لا نعني بهذا أن المخرج لم يكن موجودا قبل ذلك في السينما العربية... إذ إن مبدعين مثل صلاح ابو سيف وكامل التلمساني وكمال سليم وحتى نيازي مصطفى وبركات وربما كمال الشيخ وعاطف سالم، حضروا مبدعين حقيقيين في السينما المصرية قبل شاهين.
لكن شاهين خطا بموقع المخرج خطوة أخرى الى الأعلى: أعلن ولادة المخرج - المؤلف، المخرج الذي يستقي مواضيعه من نظرته الى العالم ومن همومه الخاصة (الذاتية، حتى في بعد نرجسي، لاحقا)، فارضا على السيناريو رؤاه، حتى وإن كتبه آخرون، ومبدعون كبار في أزمانهم من طينة عبدالحي اديب ("باب الحديد") أو لطفي الخولي ("العصفور") أو حسن فؤاد ("الأرض" عن رواية لعبدالرحمن الشرقاوي). وكان هذا هو الجديد: ولادة المخرج - المؤلف، أو شبه المؤلف، وذلك قبل ولادة هذا، على يد الموجة الجديدة الفرنسية بنحو عقد كامل من السنين. إذ، علينا ألا ننسى هنا أن شاهين يمكن اعتباره في الإبداع العربي، الترجمة المبكرة، لما سيقوله في آخر سني حياته الكاتب الفرنسي آلان - روب غرييه، من أن المبدع، ومهما كانت موضوعية ما ينتج وشيئيته، هو لا يتحدث في نهاية الأمر إلا عن نفسه. وشاهين، لأنه مبدع حقيقي، جعل سينماه مرآة لنفسه منذ البداية: إذ حتى "بابا أمين"، إن نظرنا إليه اليوم على ضوء مسيرة شاهين التي نعرف، سيبدو فيلما ينتمي الى السيرة الذاتية.
ولنضف الى هذا أمرا أساسيا: أن يوسف شاهين هو واحد من قلة من مبدعين عرب، لم يمارس في حياته سوى مهنة واحدة: الإخراج السينمائي. ربما انتج أحيانا، وربما مثل في بعض أفلامه، وربما حقق عملا أو أكثر للمسرح، لكنه بصورة عامة، أمضى عقود حياته المهنية، حتى الآن، وهو لا يعرف لنفسه مهنة أخرى سوى الإخراج السينمائي. ولعل هذا ما يوصلنا الى لحظة الدهشة القصوى، التي تبعثها ظروف أيامنا هذه جاعلة من أخبار يوسف شاهين الصحية، أخبار صفحات أولى في معظم الصحف ونشرات الأخبار العربية. ذلك أن المدهش في هذا ان شاهين ليس رجل سياسة ولا هو نجم غناء، ولا ظاهرة اجتماعية. شاهين هو، وفقط، مخرج سينمائي. ومع هذا ها هو يعامل، إعلاميا، كنجم حقيقي، وها هم عشرات ملايين العرب، وأهل مهنة مهتمون خارج العالم العربي أيضا، يتابعون وضعه الصحي لحظة بلحظة، بمن فيهم أناس ربما لم يقيض لهم أن يشاهدوا أي فيلم كبير من أفلام شاهين. ترى، أوليس في هذا كله انتصار للمبدع، ولا نعني هنا بالمبدع شاهين وحده، بل بالمبدع العربي في شكل عام؟ وترى، كم مخرجا سينمائيا في العالم يمكنه، حين يمرض وينقل الى المستشفى، أن يحظى بمثل هذا الاهتمام العام؟ نحن قد نفهم ضجة تثار من حول رحيل سعاد حسني أو أحمد زكي، وحزنا يسود لرحيل أم كلثوم أو فريد الأطرش أو فائزة أحمد، أو - بخاصة - عبدالحليم حافظ، أو جمال عبدالناصر... ولكن - بصراحة - يدهشنا الاهتمام نفسه إذ يعطى لفنان، شديد الخصوصية، مثل يوسف شاهين. ومرة أخرى نميل الى اعتبار هذا الاهتمام انتصارا للفن الحقيقي.
الفن الحقيقي... وإن كنا نعرف أن ليس كل ما حققه شاهين ، ينتمي الى هذا الفن الحقيقي. فالمخرج الذي حقق بعض أجمل روائع السينما العربية - خائضا في سبيلها ألف معركة ومعركة - هو نفسه الذي حقق ميلودرامات غنائية قد لا تتماشى كثيرا مع سمعته (سلسلة أفلام مع فريد الأطرش، يصعب على المرء تخيل تحقيق شاهين لها، حتى وإن كانت تعتبر من أفضل أفلام هذا الفنان الموسيقي الغنائي الكبير)، وهو نفسه الذي حقق أعمالا هي أقرب الى فن الدعاية الديماغوجي (مثل "الناس والنيل" و "الناصر صلاح الدين" حتى ولو اننا كنا نتمنى لو أن كل الفنون الديماغوجية العربية تأتي على هذا المستوى)... ففي مسار يوسف شاهين أعمال لا ترقى الى مستوى شاهين. ولكن بما أن فن السينما هو ما هو عليه، وبما أن الأمر ليس بطولات دونكيشوتية، يبقى أن في إمكاننا التأكيد أن شاهين، حتى حين يحقق أعمالا "تجارية" أو "ديماغوجية" يظل قادرا على أن ينفذ بجلده ويزين العمل، أي عمل، بلحظات شاهينية حقيقية، ما جعله يبقى دائما متساوقا مع نفسه، محافظا على ما يمكننا اعتباره حدودا دنيا في لعبة الإبداع.
انطلاقا من هذه الفكرة، فقط، يمكن النظر دائما الى سينما شاهين بغثها وسمينها، على أنها تشكل وحدة متكاملة ترتبط فيها دائما عناصر أساسية متكاملة: عنصر النظرة المشاكسة الى الواقع، عنصر موقع الذات في هذا الواقع، وعنصر الربط بين الأسباب والنتائج. فمثلا حين يريد شاهين أن يتحدث عن هزيمة عربية، يعرف تماما أن عليه ألا يكتفي بالقول إن هناك هزيمة وأن هذا الطرف أو ذاك هو المسؤول عنها... بل يصل الى ربط الهزيمة بأسبابها العميقة، وبالخيانات وضروب التخلف والصراعات (واتساع النسيج في هذا المجال هو الذي جعله، مثلا، لا يتحدث عن هزيمة حزيران/ يونيو في أقل من أربعة أفلام متكاملة: "الأرض"، "العصفور"، "الاختيار" و "عودة الابن الضال")، ومحاكمة الراهن، في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، احتاجت منه الى عودة الى التاريخ (فكانت أفلام تبدو لنا مترابطة في نهاية الأمر، مثل "وداعا بونابرت" و "المهاجر" و "المصير")، ومحاكمته - الساذجة على أية حال لما تصور، وصور له أنه العولمة - احتاجت منه أفلاما عدة وتدخل مفكرين سايروه في فكرته عن العولمة (مثل الراحل إدوارد سعيد والسياسي حامدين الصباحي، في "الآخر"، عبر ثرثرة غير مفيدة) وكذلك الى مواقف عدة نجدها في أضعف أفلامه ("الآخر" و "10/9") كما في أقواها ("إسكندرية/ نيويورك").
غير أن شاهين لا ينسى، في خضم هذا كله، أن يحاكم فئة رأى، أنها مسؤولة الى حد كبير عما يحدث، هي فئة المثقفين. ومن هنا رأيناه يدين هذه الفئة، وفي عدد كبير من أفلامه (مثل "باب الحديد" و "الاختيار" و "الأرض" و "عودة الابن الضال")، ما أوصله الى ذاته ومحاكمتها، وغالبا عارية، في سلسلة أفلامه الذاتية، التي قد تحسب ذات يوم، من أفضل ما حقق شاهين وحققت السينما المصرية في تاريخها، والتي بدأت في شكل شديد الوضوح (لأن ذاته حضرت، أصلا، في معظم سينماه، عمليا ومنذ فيلمه الأول كما أشرنا)، مع "إسكندرية ليه؟" لتصل الى "إسكندرية/ نيويورك" مرورا بـ "حدوتة مصرية" و "إسنكدرية كمان وكمان". لكن المدهش في هذا كله وعند هذه النقطة، هو أن شاهين عاد وربما منذ "المصير" ليتصالح، من ناحية مع ذاته، ومن ناحية أخرى مع المثقف، بعد إرهاصات حول هذه العودة، في "وداعا بونابرت" و"المهاجر"... وربما يعود هذا، ببساطة، الى أن شاهين، إذ تفاقمت الهزائم العربية، وتبين أن ثمة في العالم العربي - والإسلامي أيضا، لكن هذه حكاية أخرى -، ما هو أخطر: الإرهاب الذي يطاول المثقف وانطلاقا من سيرورة الوعي العام، أكثر كثيرا مما يطاول السلطات القمعية وغير القمعية، غير اتجاهه، وراح يدافع عن المثقف والفكر بكل وضوح، ما كلفه غاليا كما نعرف.
- مصر ( 1954 )
- مصر ( 1957 )
- مصر ( 1958 )
- مصر ( 1964 )
- مصر ( 1969 )
- مصر ( 1970 )